عقوبات أمريكية على حميدتي- نهاية مرحلة أم ترتيبات جديدة في السودان؟

المؤلف: الصادق الرزيقي09.24.2025
عقوبات أمريكية على حميدتي- نهاية مرحلة أم ترتيبات جديدة في السودان؟

لا يمكن فهم الخلفيات الدافعة والاعتبارات الجوهرية التي استندت إليها الإدارة الأمريكية الراحلة إلا بإمعان النظر في السياقات والملابسات الدقيقة لفرض عقوبات على قائد قوات الدعم السريع، وذلك بعد مرور عامين تقريبا على اندلاع الحرب الطاحنة في السودان، وسبق أن طالت هذه العقوبات شقيقيه وبعض قادة هذه المليشيا المتمردة.

يأتي هذا الإجراء على الرغم من إلمام واشنطن التام بالفظائع التي ارتكبتها هذه القوات من جرائم حرب وانتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني، وغرقها في أعمال وحشية لا تحصى في ولايات الخرطوم، والجزيرة، وسنار، والنيل الأبيض، وبعض مناطق كردفان، بالإضافة إلى ولايات دارفور، والتي أودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء السودانيين.

من المسلم به أن الإدارة الأمريكية تمتلك معلومات وتقارير وافية لمعاقبة قوات الدعم السريع وقادتها، لكنها لم تظهر اهتماما يذكر بموضوع معاقبة قائد هذه القوات خلال فترة الحرب، واكتفت بعقوبات محدودة على من هم دونه، ولم تتناول جوهر ومفاصل تحركات الدعم السريع بما يكفل إعاقتها.

تحت وطأة الضغوط المتزايدة من قبل أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب السابقين والحاليين، فضلا عن المنظمات الحقوقية والتقارير الصحفية، تم إصدار عقوبات في شهر يونيو/حزيران من عام 2023 على شركات تابعة لقوات الدعم السريع، ولكنها لم تكن مؤثرة بشكل كبير.

وفي شهر سبتمبر/أيلول من العام نفسه، تم فرض عقوبات أخرى على القائد الثاني لقوات الدعم السريع، المدعو عبد الرحيم حمدان دقلو، وعبد الرحمن جمعة، وهو المسؤول العسكري في ولاية غرب دارفور، والمتهم بقتل والي الولاية خميس أبكر، فضلا عن قتل وتشريد المواطنين الأبرياء.

وفي شهر مايو/أيار من عام 2024، صدرت عقوبات استهدفت بعض القادة العسكريين في قوات الدعم السريع، بمن فيهم علي يعقوب (الذي لقي حتفه في معارك الفاشر خلال العام الماضي)، وعثمان محمد حميد المعروف بـ"عثمان عمليات".

استمر الضغط المتصاعد حتى فرضت الخزانة الأمريكية في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2024 عقوبات على الشقيق الأصغر لقائد قوات الدعم السريع (القوني حمدان دقلو)، بالإضافة إلى بعض الشركات التابعة لهذه القوات. وفي نهاية المطاف، صدر القرار المنتظر من الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها ضد قائد المليشيا المتمردة نفسه.

لا يخامر أحد شك في هذه العقوبات المتتالية وتأثيرها المحتمل على قدرة قوات الدعم السريع على مواصلة القتال، والدور الذي ستلعبه في تقويض تحركاتها السياسية والعسكرية، فضلا عن كونها بمثابة إعلان وفاة لطموحات أسرة "آل دقلو" في لعب أي دور سياسي في مستقبل السودان ومستجداته الراهنة والمقبلة.

ويمكن اعتبار هذه العقوبات بمثابة تأشيرة خروج نهائي من المشهد السياسي السوداني. وفي ظل المعاناة التي تتكبدها قوات الدعم السريع حاليا من انحسار كبير في الميدان العسكري في جميع مناطق العمليات، وتوالي الهزائم عليها وعجزها عن تحقيق أي مكاسب عسكرية خلال الفترة الماضية، سواء في الفاشر عاصمة إقليم دارفور، أو في أي منطقة أخرى، فإن هذه العقوبات على قائد المليشيا تبعث برسالة جلية مفادها أن دوره قد انتهى، وأن مصيره سيكون مشابها لمصير جوناس سافيمبي في أنغولا، وبول بوت في كمبوديا، ويفغيني بريغوجين في روسيا.

عقب هذه العقوبات وإصدارها، بات على قوات الدعم السريع، التي تدرك حساسية وضعها الداخلي والانقسامات الداخلية التي بدأت تظهر بوادرها بين المكونات القبلية والعرقية المختلفة داخلها، فضلا عن صراع مراكز القوة والنفوذ، أن تستعد لما هو أسوأ في المستقبل القريب العاجل.

سيتخلى العديد من القادة العسكريين عن هذه السفينة الغارقة التي تواجه رفضا واسعا وعقوبات أمريكية قد تتسع لتشمل نطاقا دوليا، بالإضافة إلى النشاط السياسي في مناطق دارفور وكردفان ومنابع المرتزقة في جنوب ليبيا وتشاد والنيجر وبقية دول الساحل الأفريقي، الأمر الذي ينذر بقوة بالمآلات التي ستؤول إليها الأوضاع، مع تدهور وضع قوات الدعم السريع العسكري وهشاشة موقفها السياسي، وربما يتخلى عنها حلفاؤها الإقليميون.

على أرض الواقع في مناطق دارفور، تواجه قوات الدعم السريع، منذ فترة سبقت الهجوم على منطقة "الزرق" بشمال دارفور، وبعد الهجوم، شبح انقسام حاد تقوده ثلاث جهات عسكرية تمثل 45% من القوات الفاعلة للمليشيا في ولايات دارفور، بالإضافة إلى بعض القادة المتوقع انشقاقهم من المنتمين إلى أسرة "آل دقلو" في قبيلة الرزيقات.

تسود وسط القيادات الأهلية وبعض زعماء القبائل في ولايات دارفور، والذين ساندوا تمرد قوات الدعم السريع، قناعة جديدة مفادها أن محمد حمدان دقلو وإخوته وشركاءه لم يعد لديهم فرصة لتحقيق نتائج إيجابية في حربهم ضد الدولة السودانية، وأن الارتداد العكسي سيكون وخيم العواقب عليهم، الأمر الذي يتطلب تحركا عاجلا لدرء المخاطر ومد الجسور من جديد.

خلال الأيام الماضية، وبعد فرض العقوبات الأمريكية على قائد قوات الدعم السريع، تصاعدت وتيرة الشكوك والمخاوف وسط هذه الزعامات القبلية بأن قوة الدعم السريع قد نخرتها العقوبات، وأنها ستنهار وتتلاشى لا محالة.

إلى جانب ذلك، هناك تأثيرات أخرى للعقوبات على قائد قوات الدعم السريع، منها موقف حلفاء واشنطن في المحيط الأفريقي للسودان، وخاصة دول الجوار القريب في تشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وليبيا، ثم أوغندا وكينيا.

ثم هناك موقف حليفه الإقليمي الذي قدم الدعم للحرب بالعتاد الحربي والسلاح والأموال والتنسيق السياسي، وقام باستقطاب كيانات حزبية وسياسية عاجزة مثل تنسيقية "تقدم" للتحالف مع المليشيا المتمردة. فكل هؤلاء يواجهون موقفا دقيقا للغاية، فهم حلفاء لشخص مغضوب عليه أمريكيا، ولا يمكنهم الاستمرار في موالاته وتقديم الدعم والمساندة له. وهذه ميزة حاضرة في الحسبان تعقد من حسابات قوات الدعم السريع ومؤيديها.

إذا كانت هذه هي التأثيرات المحتملة، فما هي خلفية العلاقة الأمريكية مع قوات الدعم السريع حتى وصلت إلى هذه المرحلة؟ يمكن القول إن الأجهزة الأمريكية، وخاصة وكالة المخابرات المركزية (CIA) والخارجية الأمريكية، أبدت اهتماما بموضوع قوات الدعم السريع فور تشكيلها في شهر أبريل/نيسان من عام 2013.

وكانت تهتم في السابق بالمجموعات العسكرية العربية التي تشكلت عقب تمرد حركات دارفور في عام 2003، تحت مسمى حرس الحدود. وسعت وكالة المخابرات المركزية (CIA)، بالتعاون مع مكونات داخلية في السودان، إلى إشعال الخلافات وسط مجموعة حرس الحدود بقيادة الشيخ موسى هلال، وكان حميدتي أحد القادة العسكريين التابعين لموسى هلال وانشق عنه في عام 2006.

رصدت واشنطن تلك الخلافات ونسقت مع منظمات أجنبية طوعية كانت تعمل في دارفور، ومع الفرنسيين لتنسيق الاتصالات والتحركات مع حميدتي في ذلك الوقت، لكن حميدتي سرعان ما عاد إلى حضن الدولة في عام 2007.

عقب تشكيل قوات الدعم السريع، وبعد أن أُسندت إليها في نهاية عام 2015 مهمة محاربة الهجرة غير الشرعية عن طريق إغلاق الحدود السودانية الليبية، وكان حميدتي في تلك الأيام يحمل رتبة العميد، ثم تمت ترقيته إلى رتبة اللواء، عُقد أول اجتماع بين مسؤول استخباراتي أمريكي وحميدتي في الصحراء بالقرب من الحدود مع ليبيا، بهدف التعرف عليه ومراجعة خطط مكافحة الهجرة غير الشرعية. وتم التنسيق في ذلك مع الأوروبيين المستفيدين الأوائل من مكافحة تسلل المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين.

بعد مشاركة السودان في عاصفة الحزم، وإرسال قوات من الدعم السريع إلى اليمن والحدود السعودية الجنوبية، وفتح الباب أمام قائد قوات الدعم السريع لزيارات مكوكية إلى دول خليجية، عُقدت لقاءات غير معلنة في تلك الفترة بين جهات أمريكية ثم إسرائيلية خلال الفترة من عام 2017 إلى عام 2018. وكان هناك تحذير أمريكي لحميدتي بعدم التورط في النزاعات الخليجية، على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت تؤيد الحرب على اليمن. وكانت وجهة نظرها تتمثل في أن قوات الدعم السريع يمكن ترويضها.

بدأت الشكوك تنتاب الجانب الأمريكي عقب دخول شركة فاغنر الروسية إلى السودان في عهد الرئيس البشير ومباشرتها عملية تدريب متقدمة لقوات الدعم السريع. ورصدت واشنطن عبر أجهزتها في تلك الفترة تمدد الاستثمارات التعدينية المشتركة لفاغنر مع قوات الدعم السريع في منطقة "سنغو" الواقعة في أقصى حدود جنوب دارفور الجنوبية.

وهي منطقة قريبة من حفرة النحاس وجيب "كفيا كنجي" المتنازع عليه بين السودان وجنوب السودان، وهي منطقة غنية باليورانيوم والألماس والذهب. وتمتد مناطق سنغو ومناجمها في شريط مترابط داخل أفريقيا الوسطى، والتي كانت خاضعة لهيمنة فاغنر الروسية الداعمة للرئيس فوستين أرشانج تواديرا في العاصمة بانغي.

كما تابعت واشنطن أنشطة قوات الدعم السريع في مناطق أخرى وتجارة الذهب بالتنسيق مع روسيا وإحدى الدول العربية، لكنها غضت الطرف لأن التحالف الدولي لإسقاط البشير كان يضع قوات الدعم السريع ضمن الأطراف المساهمة في التغيير وفق المخطط الجاري.

بعد الإطاحة بالرئيس البشير، رصدت المخابرات الأمريكية عمليات تهريب لخام اليورانيوم من أفريقيا الوسطى والسودان، بالإضافة إلى الذهب. ففي نهاية عام 2019، وفي أوج سلطة حميدتي، كانت التقارير التي تتداولها الدوائر الأمريكية والغربية تشير إلى عمليات بيع وتجارة نشطة لليورانيوم والألماس والذهب.

كما رصدت الأجهزة الأمريكية تعاملات مع دوائر مالية أوروبية تتبع لبعض العائلات المتنفذة في النظام المصرفي الدولي وتجارة الألماس والذهب واليورانيوم، وخاصة خلال زيارة خاصة قام بها محمد حمدان دقلو إلى إيطاليا في عام 2021. ووفقا لمعلومات تناقلتها جهات عربية وغربية تتابع هذه العلاقة، فإن أموال حميدتي وأشقائه في بنوك معينة ذات صلة بهذه العائلات تفوق بكثير أمواله في مصارف أخرى.

على الرغم من ذلك، تعاملت واشنطن مع قوات الدعم السريع وعملت على استغلالها وتوظيفها من أجل مصالحها في السودان، خاصة وأن التيارات والدوائر المهيمنة على القرار الأمريكي منذ عام 2020 حتى اليوم كانت تميل إلى إضعاف السودان وتهيئته لحالة من التنافر تفضي إلى تقسيمه والسيطرة على موارده.

لم تكن إسرائيل بمنأى عن ذلك، فقد أقامت أيضا علاقة وطيدة مع قوات الدعم السريع وقيادتها، وزار عبد الرحيم دقلو تل أبيب مرتين، وعقد لقاءات في نيروبي وأوغندا ودول أخرى أكثر من مرة لتنسيق مواقف مشتركة.

مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وكان محمد حمدان دقلو في زيارة لموسكو (قبل يوم واحد من اندلاع الحرب)، تعرض حميدتي لضغوط أمريكية على مستويات مختلفة. فقد كان كثير اللقاءات في الخرطوم مع المبعوثين والوفود الأمريكية التي تزور السودان.

خلال اللقاءات التي أعقبت عودته من موسكو، تعهد للجانب الأمريكي بعدم الوقوف مع روسيا في حربها مع أوكرانيا، وعدم توريد أو بيع أي شحنات من الذهب واليورانيوم والألماس، بل كشف معلومات أخرى عن علاقته مع روسيا وتبرأ منها.

في هذه الفترة، انتشرت معلومات استخبارية تفيد بأن واشنطن تفكر في توجيه ضربات جوية لمواقع فاغنر وقوات الدعم السريع في أفريقيا الوسطى ومنطقة سنغو على حدود السودان وجنوب السودان.

بغض النظر عن الدوافع الحالية لقرار العقوبات ضد قائد قوات الدعم السريع، وما يكتنفه من أبعاد ومرام، وتقديرات للإدارة الحالية، إلا أن هذه العقوبات تضع حدا لعلاقة مؤقتة أحست واشنطن والمجتمع الاستخباراتي فيها بأنه لم يعد لدى قوات الدعم السريع ما تقدمه، وأن هناك تهيئة للمسرح في المنطقة تتطلب إبعاد وإزاحة عناصر وجهات مختلفة، بما في ذلك قوات الدعم السريع.

ستشهد المنطقة بأسرها، سواء كانت ليبيا واليمن ومنطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، ترتيبات جديدة لا مكان فيها للمليشيات القبلية أو المجموعات العسكرية ذات الطموح المأزوم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة